فصل: تفسير الآية رقم (6)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏ويستعجلونك‏}‏ عطفٌ على جملة ‏{‏وإن تعجب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 5‏]‏، لأن كلتا الجملتين حكاية لغريب أحوالهم في المكابرة والعناد والاستخفاف بالوعيد‏.‏ فابتدأ بذكر تكذيبهم بوعيد الآخرة لإنكارهم البعث، ثم عطف عليه تكذيبهم بوعيد الدنيا لتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الاستخفاف بوعيد نزول العذاب وعَدّهم إياه مستحيلاً في حال أنهم شاهدوا آثار العذاب النازل بالأمم قبلهم، وما ذلك إلا لذهولهم عن قدرة الله تعالى التي سيق الكلام للاستدلال عليها والتفريع عنها، فهم يستعجلون بنزوله بهم استخفافاً واستهزاء كقولهم‏:‏ ‏{‏فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏، وقولهم‏:‏ ‏{‏أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ علينا كِسَفا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏‏.‏

والباء في بالسيئة‏}‏ لتعدية الفعل إلى ما لم يكن يتعدى إليه‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما عندي ما تستعجلون به‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏57‏)‏‏.‏

والسيئة‏:‏ الحالة السيئة‏.‏ وهي هنا المصيبة التي تسوء من تحل به‏.‏ والحسنة ضدها، أي أنهم سألوا من الآيات ما فيه عذاب بسوء، كقولهم‏:‏ ‏{‏إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطِر علينا حجارةً من السماء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ دون أن يسألوا آية من الحسنات‏.‏

فهذه الآية نزلت حكاية لبعض أحوال سؤالهم الظّانين أنه تعجيز، والدالين به على التهكم بالعذاب‏.‏

وقبْليّة السيئة قبلية اعتبارية، أي مختارين السيئة دون الحسنة‏.‏ وسيأتي تحقيقه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة‏}‏ في سورة النمل ‏(‏46‏)‏ فانظره‏.‏

وجملة وقد خلت من قبلهم المثلات‏}‏ في موضع الحال‏.‏ وهو محل زيادة التعجيب لأن ذلك قد يعذرون فيه لو كانوا لم يروا آثار الأمم المعذبة مثل عاد وثمود‏.‏

والمَثُلات بفتح الميم وضم المثلثة‏:‏ جمع مَثُلة بفتح الميم وضم الثاء كسَمُرة، وبضم الميم وسكون الثاء كعُرْفة‏:‏ وهي العقوبة الشديدة التي تكون مثالاً تُمثل به العقوبات‏.‏

وجملة ‏{‏وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وقد خلت من قبلهم المثلات‏}‏‏.‏ وهذا كشف لغرورهم بتأخير العذاب عنهم لأنهم لمّا استهزأوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعرضوا لسؤال حلول العذاب بهم ورأوا أنه لم يعجل لهم حلوله اعترتهم ضراوة بالتكذيب وحسبوا تأخير العذاب عَجْزاً من المتوعد وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم يجهلون أن الله حليم يُمهل عباده لعلهم يرجعون، فالمغفرة هنا مستعملة في المغفرة الموقتة، وهي التجاوز عن ضراوة تكذيبهم وتأخير العذاب إلى أجل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحسبه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 34‏]‏‏.‏

وقرينة ذلك أن الكلام جار على عذاب الدنيا وهو الذي يقبل التأخير كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون‏}‏

‏[‏الدخان‏:‏ 15‏]‏، أي عذاب الدنيا، وهو الجوع الذي أصيب به قريش بعد أن كان يطعمهم من جوع‏.‏

وعلى‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏على ظلمهم‏}‏ بمعنى ‏{‏مع‏}‏‏.‏

وسياق الآية يدل على أن المراد بالمغفرة هنا التجاوز عن المشركين في الدنيا بتأخير العقاب لهم إلى أجل أراده الله أو إلى يوم الحساب، وأن المراد بالعقاب في قوله‏:‏ ‏{‏وإن ربك لشديد العقاب‏}‏ ضد تلك المغفرة وهو العقاب المؤجل في الدنيا أو عقاب يوم الحساب، فمحمل الظلم على ما هو المشهور في اصطلاح القرآن من إطلاقه على الشرك‏.‏

ويجوز أن يحمل الظلم على ارتكاب الذنوب بقرينة السياق كإطلاقه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 160‏]‏ فلا تعارض أصلاً بين هذا المحمل وبين قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ كما هو ظاهر‏.‏

وفائدة هذه العلاوة إظهار شدة رحمة الله بعباده في الدنيا كما قال‏:‏ ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وجملة وإن ربك لشديد العقاب‏}‏ احتراس لئلا يحسبوا أن المغفرة المذكورة مغفرة دائمة تعريضاً بأن العقاب حال بهم من بعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ويستعجلونك بالسيئة‏}‏ الآية‏.‏ وهذه حالة من أعجوباتهم وهي عدم اعتدادهم بالآيات التي تأيّد بها محمّد صلى الله عليه وسلم وأعظمها آيات القرآن، فلا يزالون يسألون آية كما يقترحونها، فله اتصال بجملة ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏‏.‏

ومرادهم بالآية في هذا خارق عادة على حساب ما يقترحون، فهي مخالفة لما تقدم في قوله‏:‏ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة‏}‏ لأن تلك في تعجيل ما توعدهم به، وما هنا في مجيء آية تؤيده كقولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ولكون اقتراحهم آية يُشفّ عن إحالتهم حصولها لجهلهم بعظيم قدرة الله تعالى سيق هذا في عداد نتائج عظيم القدرة، كما دل عليه قوله تعالى في سورة الأنعام‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏]‏ فبذلك انتظم تفرع الجمل بعضها على بعض وتفرع جميعها على الغرض الأصلي‏.‏

والذين كفروا هم عين أصحاب ضمير يستعجلونك‏}‏، وإنما عدل عن ضميرهم إلى اسم الموصول لزيادة تسجيل الكفر عليهم، ولما يومئ إليه الموصول من تعليل صدور قولهم ذلك‏.‏

وصيغة المضارع تدل على تجدد ذلك وتكرره‏.‏

و ‏{‏لولا‏}‏ حرف تحضيض‏.‏ يموهون بالتحضيض أنهم حريصون وراغبون في نزول آية غير القرآن ليؤمنوا، وهم كاذبون في ذلك إذ لو أوتوا آية كما يقترحون لكفروا بها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

وقد رد الله اقتراحهم من أصله بقوله‏:‏ إنما أنت منذر‏}‏، فقصر النبي صلى الله عليه وسلم على صفة الإنذار وهو قصر إضافي، أي أنت منذر لا مُوجد خوارق عادٍ‏.‏ وبهذا يظهر وجه قصره على الإنذار دون البشارة لأنه قصر إضافي بالنسبة لأحواله نحو المشركين‏.‏

وجملة ‏{‏ولكل قوم هاد‏}‏ تذييل بالأعم، أي إنما أنت منذر لهؤلاء لهدايتهم، ولكل قوم هاد أرسله الله ينذرهم لعلهم يهتدون، فما كنت بِدعاً من الرسل وما كان للرسل من قبلك آيات على مقترح أقوامهم بل كانت آياتهم بحسب ما أراد الله أن يظهر على أيديهم‏.‏ على أن معجزات الرسل تأتي على حسب ما يلائم حال المرسل إليهم‏.‏

ولما كان الذين ظهرت بينهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم عرباً أهل فصاحة وبلاغة جعل الله معجزته العظمى القرآن بلسان عربي مبين‏.‏ وإلى هذا المعنى يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح؛ «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيتُ وحَيْا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة»‏.‏

وبهذا العموم الحاصل بالتذييل والشامل للرسول عليه الصلاة والسلام صار المعنى إنما أنت منذر لقومك هادٍ إياهم إلى الحق، فإن الإنذار والهدي متلازمان فما من إنذار إلاّ وهو هداية وما من هداية إلا وفيها إنذار، والهداية أعمّ من الإنذار ففي هذا احتباك بديع‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏هادٍ‏}‏ بدون ياء في آخره في حالتي الوصل والوقف‏.‏ أما في الوصل فلالتقاء الساكنين سكون الياء وسكون التنوين الذي يجب النطق به في حالة الوصل، وأما في حالة الوقف فتبعا لحالة الوصل، وهو لغة فصيحة وفيه متابعة رسم المصحف‏.‏

وقرأه ابن كثير في الوصل مثل الجمهور‏.‏ وقرأه بإثبات الياء في الوقف لزوال مُوجب حذف الياء وهو لغة صحيحة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ‏(‏8‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

انتقال إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية، فهو متصل بجملة ‏{‏الله الذي رفع السماوات‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏ الخ‏.‏

وهذه الجملة استئناف ابتدائي‏.‏ فلما قامت البراهين العديدة بالآيات السابقة على وحدانية الله تعالى بالخلق والتدبير وعلى عظيم قدرته التي أودع بها في المخلوقات دقائق الخلقة انتقل الكلام إلى إثبات العلم له تعالى علماً عاماً بدقائق الأشياء وعظائمها، ولذلك جاء افتتاحه على الأسلوب الذي افتتح به الغرض السابق بأن ابتدئ باسم الجلالة كما ابتدئ به هنالك في قوله‏:‏ ‏{‏اللّهُ الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وجعلت هذه الجملة في هذا الموقع لأن لها مناسبة بقولهم‏:‏ لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏، فإن ما ذكر فيها من علم الله وعظيم صنعه صالح لأن يكون دليلاً على أنه لا يعجزه الإتيان بما اقترحوا من الآيات؛ ولكن بعثة الرسول ليس المقصد منها المنازعات بل هي دعوة للنظر في الأدلة‏.‏

وإذ قد كان خلق الله العوالم وغيرها معلوماً لدى المشركين ولكنّ الإقبال على عبادة الأصنام يذهلهم عن تذكره كانوا غير محتاجين لأكثر من التذكير بذلك وبالتنبيه إلى ما قد يخفى من دقائق التكوين كقوله آنفاً ‏{‏بغير عَمد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وفي الأرض قِطع متجاورات‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 4‏]‏ الخ؛ صيغ الإخبار عن الخلق في آية‏:‏ ‏{‏الله الذي رفع السماوات‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏ الخ بطريقة الموصول للعلم بثبوت مضمون الصلة للمخبر عنه‏.‏

وجيء في تلك الصلة بفعل المضي فقال‏:‏ ‏{‏الله الذي رفع السماوات كما أشرنا إليه آنفاً‏.‏ فأما هنا فصيغ الخبر بصيغة المضارع المفيد للتجدد والتكرير لإفادة أن ذلك العلم متكرر متجدد التعلق بمقتضى أحوال المعلومات المتنوعة والمتكاثرة على نحو ما قرر في قوله‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر يفصل الآيات‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وذُكر من معلومات الله ما لا نزاع في أنه لا يعلمه أحد من الخلق يومئذٍ ولا تستشار فيه آلهتهم على وجه المثال بإثبات الجُزئي لإثبات الكلّي، فما تحمل كل أنثى هي أجنة الإنسان والحيوان‏.‏ ولذلك جيء بفعل الحمل دون الحَبْل لاختصاص الحبل بحمل المرأة‏.‏

وما‏}‏ موصولة، وعمومها يقتضي علم الله بحال الحل الموجود من ذكورة وأنوثة، وتمام ونقص، وحسن وقبح، وطول وقصر، ولون‏.‏

وتغيض‏:‏ تنقص، والظاهر أنه كناية عن العلوق لأن غيض الرحم انحباس دم الحيض عنها، وازديادها‏:‏ فيضان الحيض منها‏.‏ ويجوز أن يكون الغيض مستعاراً لعدم التعدد‏.‏

والازدياد‏:‏ التعدد أي ما يكون في الأرحام من جنين واحد أو عدة أجنة وذلك في الإنسان والحيوان‏.‏

وجملة ‏{‏وكل شيء عنده بمقدار‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏يعلم ما تحمل كل أنثى‏}‏‏.‏ فالمراد بالشيء الشيء من المعلومات‏.‏ و‏{‏عنده‏}‏ يجوز أن يكون خبراً عن ‏{‏وكل شيء‏}‏ و‏{‏بمقدار‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏وكل شيء‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏بمقدار‏}‏ في موضع الحال من مقدار ويكون ‏{‏بمقدار‏}‏ خبراً عن ‏{‏كل شيء‏}‏‏.‏

والمقدار‏:‏ مصدر ميمي بقرينة الباء، أي بتقدير، ومعناه‏:‏ التحديد والضبط‏.‏ والمعنى أنه يعلم كلّ شيء علماً مفصّلاً لا شيوع فيه ولا إبهام‏.‏ وفي هذا ردّ على الفلاسفة غير المسلمين القائلين أنّ واجب الوجود يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات فراراً من تعلّق العلم بالحوادث‏.‏ وقد أبطل مذهبهم علماءُ الكلام بما ليس فوقه مرام‏.‏ وهذه قضية كلية أثبتت عموم علمه تعالى بعد أن وقع إثبات العموم بطريقة التمثيل بعلمه بالجزئيات الخفية في قوله‏:‏ ‏{‏الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ تذييل وفذلكة لتعميم العلم بالخفيات والظواهر وهما قسما الموجودات‏.‏ وقد تقدم ذكر ‏{‏الغيب‏}‏ في صدر سورة البقرة ‏(‏4‏)‏‏.‏

وأما الشهادة‏}‏ فهي هنا مصدر بمعنى المفعول، أي الأشياء المشهودة، وهي الظاهرة المحسوسة، المرئيات وغيرها من المحسوسات، فالمقصود من ‏{‏الغيب والشهادة‏}‏ تعميم الموجودات كقوله‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 38 39‏]‏‏.‏

والكبير‏:‏ مجاز في العظمة، إذ قد شاع استعمال أسماء الكثرة وألفاظ الكبر في العظمة تشبيهاً للمعقول بالمحسوس وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة‏.‏ والمتعالي‏:‏ المترفع‏.‏ وصيغت الصفة بصيغة التفاعل للدلالة على أن العلو صفة ذاتية له لا من غيره، أي الرفيع رفعة واجبة له عقلاً‏.‏ والمراد بالرفعة هنا المجاز عن العزة التامة بحيث لا يستطيع موجود أن يغلبه أو يكرهه، أو المنزه عن النقائص كقوله عزّ وجلّ تعالى ‏{‏عما يشركون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وحذف الياء من المتعال‏}‏ لمرعاة الفواصل الساكنة لأن الأفصح في المنقوص غير المُنوّن إثبات الياء في الوقف إلاّ إذا وقعت في القافية أو في الفواصل كما في هذه الآية لمراعاة ‏{‏من وال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏، و‏{‏الآصال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وقد ذكر سيبويه أن ما يختار إثباته من الياءات والواوات يحذف في الفواصل والقوافي، والإثبات أقيس والحذف عربي كثير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

موقع هذه الجملة استئناف بياني لأنّ مضمونها بمنزلة النّتيجة لعموم علم الله تعالى بالخفيات والظواهر‏.‏ وعدل عن الغيبة المتبعة في الضمائر فيما تقدم إلى الخطاب هنا في قوله‏:‏ ‏{‏سواء منكم‏}‏ لأنه تعليم يصلح للمؤمنين والكافرين‏.‏

وفيها تعريض بالتهديد للمشركين المتآمرين على النبي صلى الله عليه وسلم

و ‏{‏سواء‏}‏ اسم بمعنى مستو‏.‏ وإنما يقع معناه بين شيئين فصاعداً‏.‏ واستعمل سواء في الكلام ملازماً حالة واحدة فيقال‏:‏ هما سواء وهم سواء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأنتم فيه سواء‏}‏‏.‏ وموقع سواء هنا موقع المبتدأ‏.‏ و‏{‏من أسر القول‏}‏ فاعل سدّ مسدّ الخبر، ويجوز جعل ‏{‏سواء‏}‏ خبراً مقدّماً و‏{‏من أسر‏}‏ مبتدأ مؤخّراً و‏{‏منكم‏}‏ حال ‏{‏من أسر‏}‏‏.‏

والاستخفاء‏:‏ هنا الخفاء، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل استجاب‏.‏

والسارب‏:‏ اسم فاعل من سرب إذا ذهب في السّرْب بفتح السين وسكون الراء وهو الطريق‏.‏ وهذا من الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة‏.‏ وذكر الاستخفاء مع الليل لكونه أشد خفاء، وذكر السروب مع النهار لكونه أشد ظهوراً‏.‏ والمعنى‏:‏ أن هذين الصنفين سواء لدى علم الله تعالى‏.‏

والواو التي عطفت أسماء الموصول على الموصول الأول للتقسيم فهي بمعنى ‏{‏أو‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

لَهُ معقبات مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏

جملة ‏{‏له معقبات‏}‏ إلى آخرها، يجوز أن تكون متصلة ب ‏{‏من‏}‏ الموصولة من قوله‏:‏ ‏{‏من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 10‏]‏‏.‏ على أن الجملة خبر ثاننٍ عن من أسر القول‏}‏ وما عطف عليه‏.‏

والضمير في ‏{‏له‏}‏ والضمير المنصوب في ‏{‏يحفظونه‏}‏، وضميرا ‏{‏من بين يديه ومن خلفه‏}‏ جاءت مفردة لأن كلا منها عائد إلى أحد أصحاب تلك الصلات حيث إن ذكرهم ذكر أقسام من الذين جعلوا سواء في علم الله تعالى، أي لكل من أسرّ القول ومنْ جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنّهار معقبات يحفظونه من غوائل تلك الأوقات‏.‏

ويجوز أن تتصل الجملة ب ‏{‏من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 10‏]‏، وإفراد الضمير لمراعاة عطف صلة على صلة دون إعادة الموصول‏.‏ والمعنى كالوجه الأول‏.‏

و ‏(‏المعقبات‏)‏ جمع معَقّبة بفتح العين وتشديد القاف مكسورة اسم فاعل عَقّبه إذا تبعه‏.‏ وصيغة التفعيل فيه للمبالغة في العقب‏.‏ يقال‏:‏ عقبه إذا اتبعه واشتقاته من العقب يقال فكسر وهو اسم لمؤخّر الرجل فهو فَعِل مشتق من الاسم الجامد لأنّ الّذي يتبع غيره كأنّه يطأ على عقبه، والمراد‏:‏ ملائكة معقّبات‏.‏ والواحد معقب‏.‏

وإنما جمع جمع مؤنث بتأويل الجماعات‏.‏

والحفظ‏:‏ المراقبة، ومنه سمي الرقيب حفيظاً‏.‏ والمعنى‏:‏ يراقبون كلّ أحد في أحواله من إسرار وإعلان، وسكون وحركة، أي في أحوال ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن عليكم لحافظين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 10‏]‏‏.‏

و ‏{‏من بين يديه ومن خلفه‏}‏ مستعمل في معنى الإحاطة من الجهات كلها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من أمر الله‏}‏ صفة ‏{‏معقبات‏}‏، أي جماعات من جند الله وأمره، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل الروح من أمر ربي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ يعني القرآن‏.‏

ويجوز أن يكون الحفظ على الوجه الثاني مراداً به الوقاية والصيانة، أي يحفظون من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، أي يقونه أضرار الليل من اللصوص وذوات السموم، وأضرارَ النّهار نحو الزحام والقتال، فيكون ‏{‏من أمر الله‏}‏ جاراً ومجروراً لغواً متعلقاً ب ‏{‏يحفظونه‏}‏، أي يقُونه من مخلوقات الله‏.‏ وهذا منّة على العباد بلطف الله بهم وإلا لكان أدنى شيء يضر بهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله لطيف بعباده‏}‏ ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 19‏]‏‏.‏

جملة معترضة بين الجمل المتقدمة المسوقة للاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى وعلمه بمصنوعاته وبين التذكير بقوة قدرته وبين جملة ‏{‏هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 12‏]‏‏.‏ والمقصود تحذيرهم من الإصرار على الشّرك بتحذيرهم من حلول العقاب في الدنيا في مقابلة استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة، ذلك أنهم كانوا في نعمة من العيش فبطروا النعمة وقابلوا دعوة الرسول بالهزء وعاملوا المؤمنين بالتّحقير

‏{‏وقالوا لو نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ ‏{‏وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏‏.‏

فذكرهم الله بنعمته عليهم ونبههم إلى أنّ زوالها لا يكون إلاّ بسبب أعمالهم السيّئة بعد ما أنذرهم ودعاهم‏.‏

والتغيير‏:‏ التبديل بالمُغاير، فلا جرم أنه تديد لأولي النعمة من المشركين بأنهم قد تعرضوا لتغييرها‏.‏ فما صدقُ ما إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏ الموصولة حالة، والباء للملابسة، أي حالة ملابسة لقوم، أي حالة نعمة لأنها محل التحذير من التغيير، وأما غيرها فتغييره مطلوب‏.‏ وأطلق التغيير في قوله‏:‏ ‏{‏حتى يغيروا‏}‏ على التسبب فيه على طريقة المجاز العقلي‏.‏

وجملة ‏{‏وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له‏}‏ تصريح بمفهوم الغاية المسْتفاد من ‏{‏حتى يغيروا ما بأنفسهم‏}‏ تأكيداً للتحذير‏.‏ لأن المقام لكونه مقام خوف ووجل يقتضي التصريح دون التعريض ولا ما يقرب منه، أي إذا أراد الله أن يغيّر ما بقوم حين يغيرون ما بأنفهسم لا يَردّ إرادته شيء‏.‏ وذلك تحذير من الغرور أن يقولوا‏:‏ سنسترسل على ما نحن فيه فإذا رأينا العذاب آمنا‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس‏}‏ ‏[‏سورة يونس‏:‏ 98‏]‏ الآية‏.‏

وجملة وما لهم من دونه من وال‏}‏ زيادة في التحذير من الغرور لئلا يحسبوا أن أصنامهم شفعاؤهم عند الله‏.‏

والوالي‏:‏ الذي يلي أمر أحد، أي يشتغل بأمره اشتغال تدبير ونفع، مشتق من ولي إذا قَرب، وهو قرب ملابسة ومعالجة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏من وال‏}‏ بتنوين ‏{‏وال‏}‏ دون ياء في الوصل والوقف‏.‏ وقرأه ابن كثير بياء بعد اللام وقفا فقط دون الوصل كما علمته في قوله تعالى ‏{‏ومن يضلل الله فما له من هاد‏}‏ في هذه السورة الرعد ‏(‏33‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ‏(‏12‏)‏ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي على أسلوب تعداد الحجج الواحدة تلوى الأخرى، فلأجل أسلوب التعداد إذ كان كالتكرير لم يعطف على جملة ‏{‏سواء منكم من أسر القول‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وقد أعرب هذا عن مظهر من مظاهر قدرة الله وعجيب صنعه‏.‏ وفيه من المناسبة للإنذار بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغير ما بقوم‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 11‏]‏ الخ أنه مثال لتصرف الله بالإنعام والانتقام في تصرف واحد مع تذكيرهم بالنعمة التي هم فيها‏.‏ وكل ذلك مناسب لمقاصد الآيات الماضية في قوله‏:‏ ‏{‏الله يعلم ما تحمل كل أنثى‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 8‏]‏ وقوله‏:‏ وكل شيء عنده بمقدار ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 8‏]‏، فكانت هذه الجملة جديرة بالاستقلال وأن يجاء بها مستأنفة لتكون مستقلة في عداد الجمل المستقلة الواردة في غرض السورة‏.‏

وجاء هنا بطريق الخطاب على أسلوب قوله‏:‏ ‏{‏سواء منكم من أسر القول‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 10‏]‏ لأن الخوف والطمع يصدران من المؤمنين ويهدد بهما الكفرة‏.‏

وافتتحت الجملة بضمير الجلالة دون اسم الجلالة المفتتح به في الجمل السابقة، فجاءت على أسلوب مختلف‏.‏ وأحسب أن ذلك مراعاة لكون هاته الجملة مفرعة عن أغراض الجمل السابقة فإن جُمل فواتح الأغراض افتتحت بالاسم العلم كقوله‏:‏ ‏{‏الله الذي رفع السماوات بغير عَمد‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الله يعلم ما تحمل كل أنثى‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 8‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغير ما بقوم‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 11‏]‏، وجمل التفاريع افتتحت بالضمائر كقوله‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي مد الأرض‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ جعل فيها زوجين‏.‏

وخوفاً وطمعاً‏}‏ مصدران بمعنى التخويف والإطماع، فهما في محل المفعول لأجله لظهور المراد‏.‏

وجعل البرق آية نذارة وبشارة معاً لأنهم كانوا يَسِمون البرق فيتوسمون الغيث وكانوا يخشون صواعقه‏.‏

وإنشاء السحاب‏:‏ تكوينه من عدم بإثارة الأبْخرة التي تتجمع سحاباً‏.‏

والسحاب‏:‏ اسم جمع لسحابة‏.‏ والثقال‏:‏ جمع ثقيلة‏.‏ والثقل كون الجسم أكثر كمية أجزاء من أمثاله، فالثقل أمر نسبي يختلف باختلاف أنواع الأجسام، فرب شيء يعد ثقيلاً في نوعه وهو خفيف بالنسبة لنوع آخر‏.‏ والسحاب يكون ثقيلاً بمقدار ما في خلاله من البخار‏.‏ وعلامة ثقله قربه من الأرض وبطء تنقله بالرياح‏.‏ والخفيف منه يُسمى جهاماً‏.‏

وعطف الرعد على ذكر البرق والسحاب لأنه مقارنهما في كثير من الأحوال‏.‏

ولما كان الرعد صوتاً عظيماً جعل ذكره عبرة للسامعين لدلالة الرعد بلوازم عقلية على أن الله منزه عما يقوله المشركون من ادعاء الشركاء، وكان شأن تلك الدلالة أن تبعث الناظر فيها على تنزيه الله عن الشريك جعل صوت الرعد دليلاً على تنزيه الله تعالى، فإسناد التسبيح إلى الرعد مجاز عقلي‏.‏ ولك أن تجعله استعارة مكنية بأن شبه الرعد بآدمي يُسبح الله تعالى، وأثبت شيء من علائق المشبّه به وهو التسبيح، أي قول سبحان الله‏.‏

والباء في ‏{‏بحمده‏}‏ للملابسة، أي ينزه الله تنزيهاً ملابساً لحمده من حيث إنه دال على اقتراب نزول الغيث وهو نعمة تستوجبُ الحمد‏.‏ فالقول في ملابسة الرعد للحمد مساوٍ للقول في إسناد التسبيح إلى الرعد‏.‏ فالملابسة مجازية عقلية أو استعارة مكنية‏.‏

و ‏{‏الملائكة‏}‏ عطف على الرعد، أي وتسبح الملائكة من خيفته، أي من خوف الله‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ للتعليل، أي ينزهون الله لأجل الخوف منه، أي الخوف مما لا يرضى به وهو التقصير في تنزيهه‏.‏

وهذا اعتراض بين تعداد المواعظ لمناسبة التعريض بالمشركين، أي أن التنزيه الذي دلت عليه آيات الجو يقوم به الملائكة، فالله غني عن تنزيهكم إياه، كقوله‏:‏ ‏{‏إن تكفروا فإن الله غني عنكم‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 7‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 8‏]‏‏.‏

واقتصر في العبرة بالصواعق على الإنذار بها لأنها لا نعمة فيها لأن النعمة حاصلة بالسحاب وأما الرعد فآلة من آلات التخويف والإنذار‏.‏ كما قال في آية سورة البقرة ‏{‏أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وكان العرب يخافون الصواعق‏.‏ ولقبوا خويلد بن نفيل الصَعِق لأنه أصابته صاعقة أحرقته‏.‏

ومن هذا القبيل قول النبي‏:‏ إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوّف الله بهما عباده، أي بكسوفهما فاقتصر في آيتهما على الإنذار إذ لا يترقب الناس من كسوفهما نفعاً‏.‏

وجملة وهم يجادلون في الله‏}‏ في موضع الحال لأنه من متممات التعجب الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وإن تعجب فعجب قولهم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 5‏]‏ الخ‏.‏ فضمائر الغيبة كلها عائدة إلى الكفار الذين تقدم ذكرهم في صدر السورة بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين كفروا بربهم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 5‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقد أعيد الأسلوب هنا إلى ضمائر الغيبة لانقضاء الكلام على ما يصلح لموعظة المؤمنين والكافرين فتمحض تخويف الكافرين‏.‏

والمجادلة‏:‏ المخاصمة والمراجعة بالقول‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏107‏)‏‏.‏

وقد فهم أن مفعول يجادلون‏}‏ هو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون‏.‏ فالتقدير‏:‏ يجادلونك أو يجادلونكم، كقوله‏:‏ ‏{‏يجادلونك في الحق بعد ما تبين‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏6‏)‏‏.‏

والمجادلة إنما تكون في الشؤون والأحوال، فتعليق اسم الجلالة المجرور بفعل يجادلون‏}‏ يتعين أن يكون على تقدير مضاف تدل عليه القرينة، أي في توحيد الله أو في قدرته على البعث‏.‏

ومن جدلهم ما حكاه قوله‏:‏ ‏{‏أو لم يرى الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم‏}‏ في سورة يس ‏(‏77، 78‏)‏‏.‏

والمِحال‏:‏ بكسر الميم يحتمل هنا معنيين، لأنه إن كانت الميم فيه أصلية فهو فِعال بمعنى الكيد وفعله مَحَل، ومنه قولهم تمحل إذا تحيل‏.‏

جعل جدالهم في الله جدال كيد لأنهم يبرزونه في صورة الاستفهام في نحو قولهم‏:‏ من يُحيي العظام وهي رميم‏}‏ فقوبل ب ‏{‏شديد المحال‏}‏ على طريقة المشاكلة، أي وهو شديد المحال لا يغلبونه، ونظيره ‏{‏ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقال نفطويه‏:‏ هو من ماحل عن أمره، أي جَادل‏.‏ والمعنى‏:‏ وهو شديد المجادلة، أي قوي الحجة‏.‏

وإن كانت الميم زائدة فهو مفعل من الحول بمعنى القوة، وعلى هذا فإبدال الواو ألفاً على غير قياس لأنه لا موجب للقلب لأن ما قبل الواو ساكن سكوناً حياً‏.‏ فلعلهم قلبوها ألفاً للتفرقة بينه وبين مِحول بمعنى صبي ذي حول، أي سنة‏.‏

وذكر الواحدي والطبري أخباراً عن أنس وابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في قضية عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة حين وردا المدينة يشترطان لدخولهما في الإسلام شروطاً لم يقبلها منهما النبي‏.‏ فهمّ أرْبَد بقتل النبي فصرفه الله، فخرج هو وعامر بن الطفيل قاصدين قومهما وتواعدا النبي بأن يجلبا عليه خيل بني عامر‏.‏ فأهلك الله أربَد بصاعقة أصابته وأهلك عامراً بِغُدة نبتت في جسمه فمات منها وهو في بيت امرأة من بني سلول في طريقه إلى أرض قومه، فنزلت في أربد ويرسل الصواعق‏}‏ وفي عامر ‏{‏وهم يجادلون في الله‏}‏‏.‏

وذكر الطبري عن صحار العبدي‏:‏ أنها نزلت في جبار آخر‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ أنها نزلت في يهودي جادل في الله فأصابته صاعقة‏.‏

ولما كان عامر بن الطفيل إنما جاء المدينة بعد الهجرة وكان جدال اليهود لا يكون إلا بعد الهجرة أقدم أصحاب هذه الأخبار على القول بأن السورة مدنية أوْ أن هذه الآيات منها مدنية، وهي أخبار ترجع إلى قول بعض الناس بالرأي في أسباب النزول‏.‏ ولم يثبت في ذلك خبر صحيح صريح فلا اعتداد بما قالوه فيها ولا يخرج السورة عن عداد السور المكية‏.‏ وفي هذه القصة أرسل عامر بن الطفيل قوله‏:‏ «أغُدّة كغدة البعير وموت في بيت سلولية» مثلاً‏.‏ ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربدَ بأبيات منها‏:‏

أخشى على أربد الحتوف ولا *** أرهب نَوْء السِماك والأسد

فجّعَني الرعد والصواعق بالف *** ارس يوم الكريهة النّجِدِ

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي بمنزلة النتيجة ونهوض المدلل عليه بالآيات السالفة التي هي براهين الانفراد بالخلق الأول، ثم الخلق الثاني، وبالقدرة التامة التي لا تدانيها قدرة قدير، وبالعلم العام، فلا جرم أن يكون صاحب تلك الصفات هو المعبود بالحق وأن عبادة غيره ضلال‏.‏

والدعوة‏:‏ طلب الإقبال، وكثر إطلاقها على طلب الإقبال للنجدة أو للبذل‏.‏ وذلك متعين فيها إذا أطلقت في جانب الله لاستحالة الإقبال الحقيقي فالمراد طلب الإغاثة أو النعمة‏.‏

وإضافة الدعوة إلى الحق إمّا من إضافة الموصوف إلى الصفة إن كان الحق بمعنى مصادفة الواقع، أي الدعوة التي تصادف الواقع، أي استحقاقه إياها؛ وإما من إضافة الشيء إلى منشئه كقولهم‏:‏ برود اليمن، أي الدعوة الصادرة عن حق وهو ضد الباطل، فإن دعاء الله يصدر عن اعتقاد الوحدانية وهو الحق، وعبادة الأصنام تصدر عن اعتقاد الشرك وهو الباطل‏.‏

واللام للملك المجازي وهو الاستحقاق‏.‏ وتقديم الجار والمجرور على المبتدإ لإفادة التخصيص، أي دعوة الحق ملكه لا ملك غيره، وهو قصر إضافي‏.‏

وقد صُرح بمفهوم جملة القصر بجملة ‏{‏والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 14‏]‏، فكانت بياناً لها‏.‏ وكان مقتضى الظاهر أن تفصل ولا تعطف وإنما عطفت لما فيها من التفصيل والتمثيل، فكانت زائدة على مقدار البيان‏.‏ والمقصود بيان عدم استحقاق الأصنام أن يدعوها الداعون‏.‏ واسم الموصول صادق على الأصنام‏.‏ وضمير يدعون للمشركين‏}‏‏.‏ ورابط الصلة ضمير نصب محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ والذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم‏.‏

وأجري على الأصنام ضمير العقلاء في قوله‏:‏ ‏{‏لا يستجيبون‏}‏ مجازاة للاستعمال الشائع في كلام العرب لأنهم يعاملون الأصنام معاملة عاقلين‏.‏

والاستجابة‏:‏ إجابة نداء المنادي ودعوة الداعي، فالسين والتاء لقوة الفعل‏.‏

والباء في بشيء لتعدية ‏{‏يستجيبون‏}‏ لأن فعل الإجابة يتعدى إلى الشيء المجاب به بالباء، وإذا أريد من الاستجابة تحقيق المأمول اقتصر على الفعل‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 34‏]‏‏.‏

فلما أريد هنا نفي إجداء دعائهم الأصنام جعل نفي الإجابة متعدياً بالباء إلى انتفاء أقل ما يجيب به المسؤول وهو الوعد بالعطاء أو الاعتذار عنه، فهم عاجزون عن ذلك وهم أعجز عما فوقه‏.‏

وتنكير شيء للتحقير‏.‏ والمراد أقل ما يجاب به من الكلام‏.‏

والاستثناء في إلا كباسط كفيه‏}‏ من عموم أحوال الداعين والمستجيبين والدعوة والاستجابة، لأنه تشبيه هيئة فهو يسري إلى جميع أجزائها فلك أن تقدر الكلام إلا كداع باسط أو إلاّ كحال باسط‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يستجيبونهم في حاللٍ من أحوال الدعاء والاستجابة إلا في حاللٍ لداععٍ ومستجيببٍ كحال باسطٍ كفيه إلى الماء‏.‏ وهذا الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده فيؤول إلى نفي الاستجابة في سائر الأحوال بطريق التمليح والكناية‏.‏

والمراد ب ‏(‏باسط كفيه‏)‏ من يغترف ماء بكفين مبسوطتين غير مقبوضتين إذ الماء لايستقر فيهما‏.‏ وهذا كما يقال‏:‏ هو كالقابض على الماء، في تمثيل إضاعة المطلوب‏.‏ وأنشد أبو عبيدة‏:‏

فأصبحت فيما كان بيني وبينها *** من الودّ مثل القابض الماءَ باليد

و‏{‏إلى‏}‏ للانتهاء لدلالة ‏{‏باسط‏}‏ على أنه مَدّ إلى الماء كفيه مبسوطتين‏.‏

واللام في ‏{‏ليبلغ‏}‏ للعلة‏.‏ وضمير ‏{‏يبلغ‏}‏ عائد إلى الماء‏.‏ وكذلك ضمير ‏{‏هو‏}‏ والضمير المضاف إليه في ‏(‏بالغه‏)‏ للفم‏.‏

والكلام تمثيلية‏.‏ شبّه حال المشركين في دعائهم الأصنام وجلب نفعهم وعدم استجابة الأصنام لهم بشيء بحال الظمآن يبسط كفيه يبتغي أن يرتفع الماء في كفيه المبسوطتين إلى فمه ليرويه وما هو ببالغ إلى فمه بذلك الطلب فيذهب سعيه وتعبه باطلاً مع ما فيه من كناية وتمليح كما ذكرناه‏.‏

وجملة ‏{‏وما دعاء الكافرين إلا في ضلال‏}‏ عطف على جملة ‏{‏والذين يدعون من دونه‏}‏ لاستيعاب حال المدعو وحال الداعي‏.‏ فبينت الجملة السابقة حال عجز المدعو عن الإجابة وأعقبت بالتمثيل المشتمل على كناية وتمليح‏.‏ واشتمل ذلك أيضاً بالكناية على خيبة الداعي‏.‏

وبينت هذه الجملة الثانية حال خيبة الداعي بالتصريح عقب تبْيينه بالكناية‏.‏ فباختلاف الغرض والأسلوب حَسنُ العطف، وبالمآل حصل توكيد الجملة الأولى وتقريرُها وكانت الثانية كالفذلكة لتفصيل الجملة الأولى‏.‏

والضلال‏:‏ التلف والضياع‏.‏ و‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية للدلالة على التمكن في الوصف، أي إلا ضائع ضَياعاً شديداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏له دعوة الحق‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 14‏]‏ أي له دعوة الحق وله يسجد من في السماوات والأرض وذلك شعار الإلهية، فأما الدعوة فقد اختص بالحقة منها دون الباطلة، وأما السجود وهو الهويّ إلى الأرض بقصد الخضوع فقد اختص الله به على الإطلاق، لأن الموجودات العليا والمؤمنين بالله يسجدون له، والمشركين لا يسجدون للأصنام ولا لله تعالى، ولعلهم يسجدون لله في بعض الأحوال‏.‏

وعدل عن ضمير الجلالة إلى اسمه تعالى العَلَم تبعاً للأسلوب السابق في افتتاح الأغراض الأصلية‏.‏

والعموم المستفاد من مَن‏}‏ الموصولة عموم عرفي يراد به الكثرة الكاثرة‏.‏

والمقصود من ‏{‏طوعاً وكرهاً‏}‏ تقسيم أحوال الساجدين‏.‏ والمراد بالطوع الانسياق من النفس تقرّباً وزُلفى لمحض التعظيم ومحبة الله‏.‏ وبالكَره الاضطرار عند الشدة والحاجة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون‏}‏ ‏[‏سورة النحل‏:‏ 53‏]‏‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ مُكره أخُوك لا بَطل، أي مضطر إلى المقاتلة وليس المراد من الكَره الضغط والإلجاء كما فسر به بعضهم فهو بعيد عن الغرض كما سيأتي‏.‏

والظلال‏:‏ جمع ظل، وهو صورة الجسم المنعكس إليه نور‏.‏

والضمير راجع إلى من في السماوات والأرض‏}‏ مخصوصٌ بالصالح له من الأجسام الكثيفة ذات الظل تخصيصاً بالعقل والعادة، وهو عطف على ‏{‏من‏}‏، أي يسجد مَن في السماوات وتسجد ظِلالهم‏.‏

والغدُوّ‏:‏ الزمان الذي يغدو فيه الناس، أي يخرجون إلى حوائجهم‏:‏ إما مصدراً على تقدير مضاف، أي وقت الغدو؛ وإما جمع غُدوة، فقد حكي جمعها على غُدوّ، وتقدم في آخر سورة الأعراف‏.‏

والآصال‏:‏ جمع أصيل، وهو وقت اصفرار الشمس في آخر المساء، والمقصود من ذكرهما استيعاب أجزاء أزمنة الظل‏.‏

ومعنى سجود الظلال أن الله خلقها من أعراض الأجسام الأرضية، فهي مرتبطة بنظام انعكاس أشعة الشمس عليها وانتهاء الأشعة إلى صلابة وجه الأرض حتى تكون الظلال واقعة على الأرض وُقوعَ الساجد، فإذا كان من الناس من يأبى السجود لله أو يتركه اشتغالاً عنه بالسجود للأصنام فقد جعل الله مثاله شاهداً على استحقاق الله السجود إليه شهادة رمزية‏.‏ ولو جعل الله الشمس شمسين متقابلتين على السواء لانعدمت الظلال، ولو جعل وجه الأرض شفافاً أو لامعاً كالماء لم يظهر الظل عليه بيّنا‏.‏ فهذا من رموز الصنعة التي أوجدها الله وأدقّها دقة بديعة‏.‏ وجعل نظام الموجودات الأرضية مهيئة لها في الخلقة لحكم مجتمعة، منها‏:‏ أن تكون رموزاً دالّة على انفراده تعالى بالإلهية، وعلى حاجة المخلوقات إليه، وجعل أكثرها في نوع الإنسان لأن نوعه مختص بالكفران دون الحيوان‏.‏

والغرض من هذا الاستدلال الرمزي التنبيه لدقائق الصنع الإلهي كيف جاء على نظام مطّرد دال بعضه على بعض، كما قيل‏:‏

وفي كل شيء له آية تدلّ *** على أنه الواحد‏.‏‏.‏‏.‏

والاستدلال مع ذلك على أن الأشياء تسجد لله لأن ظلالها واقعة على الأرض في كل مكان وما هي مساجد للأصنام وأن الأصنام لها أمكنة معينة هي حماها وحريمها وأكثر الأصنام، في البيوت مثل‏:‏ العزى وذي الخلصة وذي الكعبات حيث تنعدم الظلال في البيوت‏.‏

وهذه الآية موضع سجود من سجود القرآن، وهي السجدة الثانية في ترتيب المصحف باتفاق الفقهاء‏.‏ ومن حكمة السجود عند قراءتها أن يضع المسلم نفسه في عداد ما يسجد لله طوعاً بإيقاعه السجود‏.‏ وهذا اعتراف فعلي بالعبودية لله تعالى‏.‏

‏{‏قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والارض قُلِ الله قُلْ أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا‏}‏

لما نهضت الأدلة الصريحة بمظاهر الموجودات المتنوعة على انفراده بالإلهية من قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي مدّ الأرض‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 3‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الله يعلم ما تحمل كل أنثى‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 8‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يريكم البرق‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 12‏]‏ الآيات، وبما فيها من دلالة رمزية دقيقة من قوله‏:‏ ‏{‏له دعوة الحق‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 14‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولله يسجد من في السماوات‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 15‏]‏ إلى آخرها لا جرم تهيّأ المقام لتقرير المشركين تقريراً لا يجدون معه عن الإقرار مندوحة، ثم لتقريعهم على الإشراك تقريعاً لا يسعهم إلاّ تجرّع مرارته، لذلك استؤنف الكلام وافتتح بالأمر بالقول تنويهاً بوضوح الحجة‏.‏

ولكون الاستفهام غير حقيقي جاء جوابه من قِبَل المستفِهم‏.‏ وهذا كثير في القرآن وهو من بديع أساليبه، كقوله‏:‏ ‏{‏عم يتساءلون عن النبأ العظيم‏}‏ ‏[‏سورة النبأ‏:‏ 1 2‏]‏‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏12‏)‏‏.‏

وإعادة فعل الأمر بالقول في قل أفاتخذتم من دونه أولياء‏}‏ الذي هو تفريع على الإقرار بأن الله ربّ السماوات والأرض لقصد الاهتمام بذلك التفريع لما فيه من الحجة الواضحة‏.‏

فالاستفهام تقرير وتوبيخ وتسفيه لرأيهم بناءً على الإقرار المسلّم‏.‏ وفيه استدلال آخر على عدم أهلية أصنامهم للإهلية فإن اتخاذهم أولياء من دونه معلوم لا يحتاج إلى الاستفهام عنه‏.‏

وجملة ‏{‏لا يملكون‏}‏ صفة ل ‏{‏أولياء‏}‏، والمقصود منها تنبيه السامعين للنظر في تلك الصفة فإنهم إن تدبروا علموها وعلموا أن من كانت تلك صفته فليس بأهل لأن يعبد‏.‏

ومعنى الملك هنا القدرة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً‏}‏ في سورة العقود ‏(‏76‏)‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ أوَ أمْلِك لك أنْ نزع الله من قلبك الرحمة‏.‏

وعطف الضر على النفع استقصاء في عجزهم لأن شأن الضرّ أنه أقرب للاستطاعة وأسهل‏.‏

قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور‏}‏

إعادة الأمر بالقول للاهتمام الخاصّ بهذا الكلام لأن ما قبله إبطال لاستحقاق آلهتهم العبادة‏.‏ وهذا إظهار لمزية المؤمنين بالله على أهل الشرك، ذلك أن قوله‏:‏ ‏{‏قل من رب السماوات والأرض قل الله‏}‏ تضمّن أن الرسول عليه السلام دعا إلى إفراد الله بالربوبية وأن المخاطبين أثبتوا الربوبية للأصنام فكان حالهم وحاله كحال الأعمى والبصير وحال الظلمات والنور‏.‏

ونفي التسوية بين الحالين يتضمن تشبيهاً بالحالين وهذا من صيغ التشبيه البليغ‏.‏

و ‏{‏أم‏}‏ للإضراب الانتقالي في التشبيه‏.‏ فهي لتشبيه آخر بمنزلة ‏{‏أو‏}‏ في قول لبيد‏:‏

أوْ رَجْعُ واشمة أسف نؤورها ***

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏‏.‏

وأظهر حرف ‏{‏هل‏}‏ بعد ‏{‏أم‏}‏ لأن فيه إفادة تحقيق الاستفهام‏.‏ وذلك ليس مما تغني فيه دلالة ‏{‏أم‏}‏ على أصل الاستفهام ولذلك لا تظهر الهمزة بعد ‏{‏أم‏}‏ اكتفاء بدلالة ‏{‏أم‏}‏ على تقدير استفهام‏.‏

وجمع الظلمات وإفراد النور تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل الظلمات والنور‏}‏ في أول سورة الأنعام ‏(‏1‏)‏‏.‏

واختير التشبيه في المتقابلات العَمَى والبصر، والظلمة والنور، لتمام المناسبة لأن حال المشركين أصحاب العمى كحال الظلمة في انعدام إدراك المبصرات، وحال المؤمنين كحال البصر في العلم وكحال النور في الإفاضة والإرشاد‏.‏

وقرأ الجمهور تستوى الظلمات‏}‏ بفوقية في أوله مراعاة لتأنيث الظلمات‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بتحتية في أوله وذلك وجه في الجمع غير المذكر السالم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏أم‏}‏ للإضراب الانتقال في الاستفهام مقابل قوله‏:‏ ‏{‏أفأتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً‏}‏، فالكلام بعد ‏(‏أم‏)‏ استفهام حذفت أداته لدلالة ‏(‏أم‏)‏ عليها‏.‏ والتقدير؛ ‏{‏أم جعلوا لله شركاء‏}‏‏.‏ والتُفت عن الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عنهم لما مضى من ذكر ضلالهم‏.‏

والاستفهام مستعمل في التهكم والتغليط‏.‏ فالمعنى‏:‏ لو جعلوا لله شركاء يخلقون كما يَخلق الله لكانت لهم شبهة في الاغترار واتخاذهم آلهة، أي فلا عذر لهم في عبادتهم، فجملة ‏{‏خلقوا‏}‏ صفة ل ‏{‏شركاء‏}‏‏.‏

وشِبْه جملة ‏{‏كخلقه‏}‏ في معنى المفعول المطلق، أي خلقوا خلقاً مثل مَا خلق الله‏.‏ والخلق في الموضعين مصدر‏.‏

وجملة ‏{‏فتشابه‏}‏ عطف على جملة ‏{‏خلقوا كخلقه‏}‏ فهي صفة ثانية ل ‏{‏شركاء‏}‏، والرابط اللام في قوله‏:‏ ‏{‏الخلق‏}‏ لأنها عوض عن الضمير المضاف إليه‏.‏ والتقدير‏:‏ فتشابه خلقهم عليهم‏.‏ والوصفان هما مصب التهكم والتغليط‏.‏

وجملة ‏{‏قل الله خالق كل شيء‏}‏ فذلكة لما تقدم ونتيجة له، فإنه لما جاء الاستفهام التوبيخي في ‏{‏أفاتخذتم من دونه أولياء‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 16‏]‏ وفي أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه‏}‏ كان بحيث ينتج أن أولئك الذين اتخذوهم شركاء لله والذين تبين قصورهم عن أن يملكوا لأنفسهم نفعاً أو ضراً، وأنهم لا يخلقون كخلق الله إن هم إلا مخلوقات لله تعالى، وأن الله خالق كل شيء، وما أولئك الأصنام إلا أشياء داخلة في عموم ‏{‏كل شيء‏}‏؛ وأن الله هو المتوحد بالخلق، القهّار لكل شيء دونه‏.‏ ولتعين موضوع الوحدة ومتعلق القهر حذف متعلقهما‏.‏ والتقدير‏:‏ الواحد بالخلق القهّار للموجودات‏.‏

والقهر‏:‏ الغلبة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏18‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏أنزل من السماء ماء‏}‏ استئناف ابتدائي أفاد تسجيل حرمان المشركين من الانتفاع بدلائل الاهتداء التي من شأنها أن تهدي من لم يطبع الله على قلبه فاهتدى بها المؤمنون‏.‏

وجيء في هذا التسجيل بطريقة ضرب المثل بحالي فريقين في تلقي شيء واحد انتفع فريق بما فيه من منافع وتعلق فريق بما فيه من مضار‏.‏ وجيء في ذلك التمثيل بحالة فيها دلالة على بديع تصرف الله تعالى ليحصل التخلص من ذكر دلائل القدرة إلى ذكر عبَر الموعظة، فالمركب مستعمل في التشبيه التمثيلي بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يضرب الله الحق‏}‏ الخ‏.‏

شبه إنزال القرآن الذي به الهدى من السماء بإنزال الماء الذي به النفع والحياة من السماء‏.‏ وشبه ورود القرآن على أسماع الناس بالسيل يمر على مختلف الجهات فهو يَمرّ على التّلال والجبال فلا يستقر فيها ولكنه يمضي إلى الأودية والوهاد فيأخذ منه كُلّ بقدر سعته‏.‏ وتلك السيول في حال نزولها تحمل في أعاليها زَبَداً، وهو رغوة الماء التي تربو وتطفو على سطح الماء، فيذهب الزبد غير منتفع به ويبقى الماء الخالص الصافي ينتفع به الناس للشراب والسقي‏.‏

ثم شُبهت هيئة نزول الآيات وما تحتوي عليه من إيقاظ النظر فيها فينتفع به من دخل الإيمان قلوبهم على مقادير قوة إيمانهم وعملهم، ويمر على قلوب قوم لا يشعرون به وهم المنكرون المعرضون، ويخالط قلوبَ قوم فيتأملونه فيأخذون منه ما يثير لهم شبهات وإلحاداً‏.‏ كقولهم‏:‏ ‏{‏هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مُزّقتم كلّ ممزّق إنكم لفي خلق جديد‏}‏‏.‏ ومنه الأخذ بالمتشابه قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 7‏]‏‏.‏

شبه ذلك كله بهيئة نزول الماء فانحدَارِه على الجبال والتلال وسيلانه في الأودية على اختلاف مقاديرها، ثم ما يدفع من نفسه زبداً لا ينتفع به ثم لم يلبث الزبد أن ذهب وفني والماء بقي في الأرض للنفع‏.‏

ولما كان المقصود التشبيه بالهيئة كلها جيء في حكاية ما ترتب على إنزال الماء بالعطف بفاء التفريع في قوله‏:‏ فسالت‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاحتمل‏}‏ فهذا تمثيل صالح لتجزئة التشبيهات التي تركب منها وهو أبلغ التمثيل‏.‏

وعلى نحو هذا التمثيل وتفسيره جاء ما يبينه من التمثيل الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم «مثَل ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقيّة قبلتْ الماء فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناسَ فشربوا وسقَوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعَان لا تمسك ماء ولا نتنبت كلأ، مثلَ منْ فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به»‏.‏

والأودية‏:‏ جمع الوادي، وهو الحفير المتسع الممتد من الأرض الذي يجري فيه السيل‏.‏ وتقدم في سورة براءة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 121‏]‏‏.‏

والقَدَر بفتحتين‏:‏ التقدير، فقوله‏:‏ بقدرها‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏أودية‏}‏، وذكره لأنه من مواضع العبرة، وهو أن كانت أخاديد الأودية على قَدْر ما تحتمله من السيول بحيث لا تفيض عليها وهو غالب أحوال الأودية‏.‏ وهذا الحال مقصود في التمثيل لأنه حال انصراف الماء لنفععٍ لا ضرّ معه، لأنّ من السيول جواحف تجرف الزرع والبيوت والأنعام‏.‏

وأيضاً هو دال على تفاوت الأودية في مقادير المياه‏.‏ ولذلك حظ من التشبيه وهو اختلاف الناس في قابلية الانتفاع بما نزل من عند الله كاختلاف الأودية في قبول الماء على حسب ما يسيل إليها من مصاب السيول، وقد تم التمثيل هنا‏.‏

وجملة ‏{‏ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زيد مثله‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏فاحتمل‏}‏ الخ وجملة ‏{‏فأما الزبد‏}‏ الخ‏.‏

وهذا تمثيل آخر ورد استطراداً عقب ذكر نظيره يفيد تقريب التمثيل لقوم لم يشاهدوا سيول الأودية من سكان القرى مثل أهل مكّة وهم المقصود، فقد كان لهم في مكة صواغون كما دل عليه حديث الإذخر، فقرب إليهم تمثيل عدم انتفاعهم بما انتفع به غيرهم بمَثَل ما يصهْر من الذهب والفضة في البواتق فإنه يقذف زبداً ينتفي عنه وهو الخَبث وهو غير صالح لشيء في حين صلاح معدنه لاتخاذه حلية أو متاعاً‏.‏ وفي الحديث «كما ينفي الكير خبث الحديد»‏.‏ فالكلام من قبيل تعدّد التشبيه القريب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏أو كصيب من السماء‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وأقرب إلى ما هنا قولُ لبيد‏:‏

فتنازعَا سَبطا يَطير ظِلالُه *** كدُخان مُشْعَلَة يَشِبّ ضرامها

مشمُولَةٍ غُلثت بنابتتِ عَرفَج *** كدُخان نار سَاطع إسنامها

وأفاد ذلك في هذه الآية قوله‏:‏ زبد مثله‏}‏‏.‏

وتقديم المسند على المسند إليه في هذه الجملة للاهتمام بالمسند لأنّه موضع اعتبار أيضاً ببديع صنع الله تعالى إذ جعل الزبد يطفو على أرقّ الأجسام وهو الماء وعلى أغلظها وهو المعدن فهو ناموس من نواميس الخلقة، فبالتقديم يقع تشويق السامع إلى ترقب المسند إليه‏.‏

وهذا الاهتمام بالتشبيه يشبه الاهتمام بالاستفهام في قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف جهنم «فإذا فيها كلاليبُ مثل حَسك السعدان هل رأيتم حسك السعدان»‏.‏

وعدل عن تسمية الذهب والفضة إلى الموصولية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومما توقدون عليه في النار‏}‏ لأنها أخصر وأجمع، ولأن الغرض في ذكر الجملة المجعولة صلة، فلو ذكرت بكيفية غير صلة كالوصفية مثلاً لكانت بمنزلة الفضلة في الكلام ولطال الكلام بذكر اسم المَعْدنين مع ذكر الصلة إذ لا مَحيد عن ذكر الوقود لأنه سبب الزبد، فكان الإتيان بالموصول قضاءً لحق ذكر الجملة مع الاختصار البديع‏.‏

ولأنّ في العدول عن ذكر اسم الذهب والفضة إعراضاً يؤذن بقلة الاكتراث بهما ترفعاً عن وَلع النّاس بهما فإن اسميهما قد اقترنا بالتعظيم في عرف النّاس‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ومما توقدون‏}‏ ابتدائية‏.‏

و ‏{‏ابتغاء حلية أو متاع‏}‏ مفعول لأجله متعلق ب ‏{‏توقدون‏}‏‏.‏ ذكر لإيضاح المراد من الصلة ولإدماج ما فيه من منة تسخير ذلك للناس‏.‏ لشدة رغبتهم فيهما‏.‏

والحلية‏:‏ ما يتحلى به، أي يتزين وهو المصوغ‏.‏

والمتاع‏:‏ ما يتمتع به وينتفع، وذلك المسكوك الذي يَتعامل به الناس من الذهب والفضة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏توقدون‏}‏ بفوقية في أوله على الخطاب، وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف بتحتية على الغيبة‏.‏

وجملة ‏{‏كذلك يضرب الله الحق والباطل‏}‏ معترضة، هي فذلكة التمثيل ببيان الغرض منه، أي مثل هذه الحالة يكون ضَرْب مثل للحق والباطل‏.‏ فمعنى ‏{‏يضرب‏}‏ يبيّن ويُمثل‏.‏ وقد تقدم معنى يضرب عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏

فحُذف مضاف في قوله‏:‏ يضرب الله الحق‏}‏، والتقدير‏:‏ يضرب الله مَثَلَ الحق والباطل، دلالة فعل ‏{‏يضرب‏}‏ على تقدير هذا المضاف‏.‏

وحذف الجار من ‏{‏الحق‏}‏ لتنزيل المضاف إليه منزلة المضاف المحذوف‏.‏

وقد علم أن الزبد مثَل للباطل وأن الماء مثَل للحق، فارتقى عند ذلك إلى ما في المثلين من صفتي البقاء والزوال ليتوصل بذلك إلى البشارة والنذارة لأهل الحق وأهل الباطل بأن الفريق الأول هو الباقي الدائم، وأن الفريق الثاني زائل بائد، كقوله‏:‏ ‏{‏ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عباديَ الصالحون إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105، 106‏]‏، فصار التشبيه تعريضاً وكناية عن البشارة والنذارة، كما دل عليه قوله عقب ذلك ‏{‏للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 18‏]‏ الخ كما سيأتي قريباً‏.‏

فجملة فأما الزبد‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏فاحتمل السيل زبداً رابيا‏}‏ مفرّعةٌ على التمثيل‏.‏ وافتتحت ب ‏{‏أما‏}‏ للتوكيد وصَرْف ذهن السامع إلى الكلام لما فيه من خفي البشارة والنذارة، ولأنه تمام التمثيل‏.‏ والتقدير‏:‏ فذهب الزبد جُفاء ومكُث ما ينفع الناس في الأرض‏.‏

والجُفاء‏:‏ الطريح المرميُّ، وهذا وعيد للمشركين بأنهم سيبيدون بالقتل ويبقى المؤمنون‏.‏

وعبر عن الماء بما ينفع الناس للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو البقاء في الأرض تعريضاً للمشركين بأن يعرضوا أحوالهم على مضمون هذه الصلة ليعلموا أنهم ليسوا ما ينفع الناس، وهذه الصلة موازنة للوصف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏ ‏[‏سورة الأنبياء‏:‏ 105‏]‏‏.‏

واكتفي بذكر وجه شبه النافع بالماء وغير النافع بالزبد عن ذكر وجه شَبَه النافع بالذهب أو الفضة وغير النافع بزبدهما استغناء عنه‏.‏

وجملة كذلك يضرب الله الأمثال‏}‏ مستأنفة تذييلية لما في لفظ ‏{‏الأمثال‏}‏ من العموم‏.‏ فهو أعم من جملة ‏{‏كذلك يضرب الله الحق والباطل‏}‏ لدلالتها على صنف من المثل دون جميع أصنافه فلما أعقب بمثل آخر وهو ‏{‏فأما الزبد فيذهب جفاء‏}‏ جيء بالتنبيه إلى الفائدة العامة من ضرب الأمثال‏.‏ وحصل أيضاً توكيد جملة ‏{‏كذلك يضرب الله الحق والباطل‏}‏ لأن العام يندرج فيه الخاص‏.‏

فإشارة ‏{‏كذلك‏}‏ إلى التمثيل السابق في جملة ‏{‏أنزل من السماء ماء‏}‏ أي مثل ذلك الضَرْب البديع يضرب الله الأمثال، وهو المقصود بهذا التذييل‏.‏

والإشارة للتنويه بذلك المثل وتنبيه الأفهام إلى حكمته وحكمة التمْثيل، وما فيه من المواعظ والعبر، وما جمعه من التمثيل والكناية التعريضية، وإلى بلاغة القرآن وإعجازه، وذلك تبهيج للمؤمنين وتحدّ للمشركين، وليعلم أن جملة ‏{‏فأما الزبد فيذهب جفاء‏}‏ لم يؤت بها لمجرد تشخيص دقائق القدرة الإلهية والصنع البديع بل ولضرب المثَل، فيعلمَ لممثّل له بطريق التعريض بالمشركين والمؤمنين، فيكون الكلام قد تم عند قوله‏:‏ ‏{‏كذلك يضرب الله الأمثال‏}‏ كما في شأن التذييل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

استئناف بياني لجملة ‏{‏كذلك يضرب الله الأمثال‏}‏، أي فائدة هذه الأمثال أن للذين استجابوا لربهم حين يضربها لهم الحسنى إلى آخره‏.‏

فمناسبته لما تقدم من التمثيلين أنهما عائدان إلى أحوال المسلمين والمشركين‏.‏ ففي ذكر هذه الجملة زيادة تنبيه للتمثيل وللغرض منه مع ما في ذلك من جزاء الفريقين لأن المؤمنين استجابوا لله بما عقلوا الأمثال فجوزوا بالحسنى، وأما المشركون فأعرضوا ولم يعقلوا الأمثال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعقلها إلا العالمون‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 43‏]‏، فكان جزاؤهم عذاباً عظيماً وهو سوء الحساب الذي عاقبته المصير إلى جهنم‏.‏ فمعنى استجابوا لربهم‏}‏ استجابوا لدعوته بما تضمنه المثل السابق وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الحسنى‏}‏ مبتدأ و‏{‏للذين استجابوا‏}‏ خبره‏.‏ وفي العدول إلى الموصولين وصلتيهما في قوله‏:‏ ‏{‏للذين استجابوا‏}‏ ‏{‏والذين لم يستجيبوا‏}‏ إيماء إلى أن الصلتين سببان لما حصل للفريقين‏.‏

وتقديم المسند في قوله‏:‏ ‏{‏للذين استجابوا لربهم الحسنى‏}‏ لأنه الأهم لأن الغرض التنويه بشأن الذين استجابوا مع جعل الحسنى في مرتبة المسند إليه، وفي ذلك تنويه بها أيضاً‏.‏

وأما الخبر عن وعيد الذين لم يستجيبوا فقد أجري على أصل نظم الكلام في التقديم والتأخير لقلة الاكتراث بهم‏.‏ وتقدم نظير قوله‏:‏ ‏{‏لو أن لهم ما في الأرض جميعاً‏}‏ في سورة العقود ‏(‏36‏)‏‏.‏

وأتي باسم الإشارة في أولئك لهم سوء الحساب‏}‏ للتنبيه على أنهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من الخبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الصلة‏.‏

و ‏{‏سوء الحساب‏}‏ ما يحف بالحساب من إغلاظ وإهانة للمحساب‏.‏ وأما أصل الحساب فهو حسن لأنه عدل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

تفريع على جملة ‏{‏للذين استجابوا لربهم الحسنى‏}‏ الآية ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 13‏]‏‏.‏ فالكلام لنفي استواء المؤمن والكافر في صورة الاستفهام تنبيهاً على غفلة الضالّين عن عدم الاستواء، كقوله‏:‏ ‏{‏أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون‏}‏ ‏[‏سورة السجدة‏:‏ 18‏]‏‏.‏

واستعير لمن لا يعلم أنّ القرآن حق اسمُ الأعمى لأنه انتفى علمه بشيء ظاهر بيّن فأشبه الأعمى، فالكاف للتشابه مستعمل في التماثل‏.‏ والاستواء المراد به التماثل في الفضل بقرينة ذكر العَمَى‏.‏ ولهذه الجملة في المعنى اتصال بقوله في أول السورة ‏{‏والذي أنزل إليك من ربك الحق إلى يؤمنون‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وجملة إنما يتذكر أولوا الألباب‏}‏ تعليل للإنكار الذي هو بمعنى الانتفاء بأن سبب عدم علمهم بالحق أنهم ليسوا أهلاً للتذكر لأن التذكر من شعار أولي الألباب، أي العقول‏.‏

والقصر ب ‏{‏إنما‏}‏ إضافي، أي لا غيرُ أولي الألباب، فهو تعريض بالمشركين بأنهم لا عقول لهم إذ انتفت عنهم فائدة عقولهم‏.‏

والألباب‏:‏ العقول‏.‏ وتقدم في آخر سورة آل عمران‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ‏(‏21‏)‏ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون الّذين يوفون الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق * والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة أولئك لَهُمْ عقبى الدار * جنات‏}‏ ابتداء كلام فهو استئناف ابتدائي جاء لمناسبة ما أفادت الجملة التي قبلها من إنكار الاستواء بين فريقين‏.‏ ولذلك ذكر في هذه الجمل حال فريقين في المحامد والمساوي ليظهر أن نفي التسوية بينهما في الجملة السابقة ذلك النفي المرادَ به تفضيل أحد الفريقين على الآخر هو نفي مُؤيد بالحجة، وبذلك يصير موقع هذه الجملة مفيداً تعليلاً لنفي التسوية المقصود منه تفضيل المؤمنين على المشركين، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏الذين يوفون‏}‏ مسنداً إليه وكذلك ما عطف عليه‏.‏ وجُملة ‏{‏أولئك لهم عقبى الدار‏}‏ مسنداً‏.‏

واجتلاب اسم الإشارة ‏{‏أولئك لهم عقبى الدار‏}‏ للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما بعد اسم الإشارة من أجْل الأوصاف التي قبل اسم الإشارة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ في أول سورة البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏

ونظير هذه الجملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شرّ مكاناً وأضل سبيلا‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 34‏]‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وقد ظهر بهذه الجملة كلها وبموقعها تفضيل الذين يعلمون أن ما أنزل حق بما لهم من صفات الكمال الموجبة للفضل في الدنيا وحسن المصير في الآخرة وبما لأضدادهم من ضد ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏والذين ينقضون عهد الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولهم سوء الدار‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 25‏]‏‏.‏

والوفاء بالعهد‏:‏ أن يحقّق المرء ما عاهد على أن يعمله‏.‏ ومعنى العهد‏:‏ الوعد الموثّق بإظهار العزم على تحقيقه من يمين أو تأكيد‏.‏

ويجوز أن يكون الذين يوفون بعهد الله‏}‏ نعتاً لقوله‏:‏ ‏{‏أولوا الألباب‏}‏ وتكون جملة ‏{‏أولئك لهم عقبى الدار‏}‏ نعتاً ثانياً‏.‏ والإتيان باسم الإشارة للغرض المذكور آنفاً‏.‏

وعهد الله مصدر مضاف لمفعوله، أي ما عاهدوا الله على فعله، أو من إضافة المصدر إلى فاعله، أي ما عهد الله به إليهم‏.‏ وعلى كلا الوَجهين فالمراد به الإيمان الذي أخذه الله على الخلق المشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، وتقدم في سورة الأعراف ‏(‏172‏)‏، فذلك عهدهم ربهم‏.‏ وأيضاً بقوله‏:‏ ‏{‏ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني‏}‏ ‏[‏سورة يس‏:‏ 60 61‏]‏، وذلك عهد الله لهم بأن يعبدوه ولا يعبدوا غيره، فحصل العهد باعتبار إضافته إلى مفعوله وإلى فاعله‏.‏

وذلك أمر أودعه الله في فطرة البشر فنشأ عليه أصلهم وتقلّده ذريته، واستمر اعترافهم لله بأنه خالقهم‏.‏

وذلك من آثار عهد الله‏.‏ وطرأ عليهم بعد ذلك تحريف عهدهم فأخذوا يتناسون وتشتبه الأمور على بعضهم فطرأ عليهم الإشراك لتفريطهم النظر في دلائل التوحيد، ولأنه بذلك العهد قد أودع الله في فطرة العقول السليمة دلائل الوحدانية لمن تأمل وأسلم للدليل، ولكن المشركين أعرضوا وكابروا ذلك العهد القائم في الفطرة، فلا جرم أن كان الإشراك إبطالاً للعهد ونقضاً له، ولذلك عطفت جملة ولا ينقضون الميثاق‏}‏ على جملة ‏{‏يوفون بعهد الله‏}‏‏.‏

والتعريف في ‏{‏الميثاق‏}‏ يحمل على تعريف الجنس فيستغرق جميع المواثيق وبذلك يكون أعم من عهد الله فيشمل المواثيق الحاصلة بين الناس من عهود وأيمان‏.‏

وباعتبار هذا العموم حصلت مغايرة ما بينه وبين عهد الله‏.‏ وتلك هي مسوغة عطف ‏{‏ولا ينقضون الميثاق‏}‏ على ‏{‏يوفون بعهد اللَّه‏}‏ مع حصول التأكيد لمعنى الأولى بنفي ضدها، وتعريضاً بالمشركين لاتصافهم بضد ذلك الكمال، فعطفُ التأكيد باعتبار المغايرة بالعموم والخصوص‏.‏

والميثاق والعهد مترادفان‏.‏ والإيفاء ونفي النقض متحداً المعنى‏.‏ وابتدئ من الصفات بهذه الخصلة لأنها تنبئ عن الإيمان والإيمان أصل الخيرات وطريقها، ولذلك عطف على ‏{‏يوفون بعهد الله‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولا ينقضون الميثاق‏}‏ تحذيراً من كل ما فيه نقضه‏.‏

وهذه الصلات صفات لأولي الألباب فعطفها من باب عطف الصفات للموصوف الواحد، وليس من عطف الأصناف‏.‏ وذلك مِثل العطف في قول الشاعر الذي أنشده الفراء في معاني القرآن‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم

فالمعنى‏:‏ الذين يتصفون بمضمون كل صلة من هذه الصلات كلما عرض مقتض لاتّصافهم بها بحيث إذا وجد المقتضي ولم يتصفوا بمقتضاه كانوا غير متصفين بتلك الفضائل، فمنها ما يستلزم الاتصاف بالضد، ومنها ما لا يسْتلزم إلا التفريط في الفضل‏.‏

وأعيد اسم الموصول هذا وما عطف عليه من الأسماء الموصولة، للدلالة على أنها صلاتها خصال عظيمة تقتضي الاهتمام بذكر من اتصف بها، ولدفع توهم أن عقبى الدار لا تتحقق لهم إلا إذا جمعوا كل هذه الصفات‏.‏

فالمراد ب ‏{‏الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل‏}‏ ما يصدق على الفريق الذين يوفون بعهد الله‏.‏

ومناسبة عطفه أنّ وصْلَ ما أمر الله به أن يوصل أثر من آثار الوفاء بعهد الله وهو عهد الطاعة الداخل في قوله‏:‏ ‏{‏وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم‏}‏ في سورة يس ‏(‏61‏)‏‏.‏

والوصل‏:‏ ضم شيء لشيء‏.‏ وضده القطع‏.‏ ويطلق مجازاً على القُرب وضده الهجر‏.‏ واشتهر مجازاً أيضاً في الإحسان والإكرام ومنه قولهم، صلة الرحم، أي الإحسان لأجل الرحم، أي لأجل القرابة الآتية من الأرحام مباشرة أو بواسط، وذلك النسب الجائي من الأمهات‏.‏ وأطلقت على قرابة النسب من جانب الآباء أيضاً لأنها لا تخلو غالباً من اشتراك في الأمهات ولو بَعِدْنَ‏.‏

وما أمر الله به أن يوصل‏}‏ عام في جميع الأواصر والعلائق التي أمر الله بالمودة والإحسان لأصحابها‏.‏

فمنها آصرة الإيمان، ومنها آصرة القرابة وهي صلة الرحم‏.‏ وقد اتفق المفسرون على أنها مراد الله هنا، وقد تقدم مثله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏26، 27‏)‏‏.‏

وإنما أطنب في التعبير عنها بطريقة اسم الموصول ما أمر الله به أن يوصل‏}‏ لما في الصلة من التعريض بأن واصلها آتتٍ بما يرضي الله لينتقل من ذلك إلى التعريض بالمشركين الذين قطعوا أواصر القرابة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه من المؤمنين وأساءوا إليهم في كل حال وكتبوا صحيفة القطيعة مع بني هاشم‏.‏

وفيها الثناء على المؤمنين بأنهم يصلون الأرحام ولم يقطعوا أرحام قومهم المشركين إلا عندما حاربوهم وناووهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أن يوصل‏}‏ بدل من ضمير ‏{‏به‏}‏، أي ما أمر الله بوصله‏.‏ وجيء بهذا النظم لزيادة تقرير المقصود وهو الأرحام بعد تقريره بالموصولية‏.‏

والخشية‏:‏ خوف بتعظيم المخوف منه وتقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏45‏)‏‏.‏ وتطلق على مطلق الخوف‏.‏

والخوف‏:‏ ظن وقوع المضرة من شيء‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يخافا ألاّ يقيما حدود الله‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏229‏)‏‏.‏

وسوء الحساب‏}‏ ما يحفّ به مما يسوء المحاسَب، وقد تقدم آنفاً، أي يخافون وقوعه عليهم فيتركون العمل السيّء‏.‏

وجاءت الصلات ‏{‏الذين يوفون‏}‏ و‏{‏الذين يصلون‏}‏ وما عطف عليهما بصيغة المضارع في تلك الأفعال الخمسة لإفادة التجدد كناية عن الاستمرار‏.‏

وجاءت صلة ‏{‏والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم‏}‏ وما عطف عليها وهو ‏{‏وأقاموا الصلاة وأنفقوا‏}‏ بصيغة المضيّ لإفادة تحقق هذه الأفعال الثلاثة لهم وتمكنها من أنفسهم تنويهاً بها لأنها أصول لفضائل الأعمال‏.‏

فأما الصبر فلأنه ملاك استقامة الأعمال ومصدرها فإذا تخلق به المؤمن صدرت عنها لحسنات والفضائل بسهولة، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر‏}‏ ‏[‏سورة العصر‏:‏ 2 3‏]‏‏.‏

وأما الصلاة فلأنها عماد الدين وفيها ما في الصبر من الخاصية لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وأما الإنفاق فأصله الزكاة، وهي مقارنة للصلاة كلما ذكرت، ولها الحظ الأوفى من اعتناء الدين بها، ومنها النفقات والعطايا كلها، وهي أهم الأعمال، لأن بذل المال يشق على النفوس فكان له من الأهمية ما جعله ثانياً للصلاة‏.‏

ثم أعيد أسلوب التعبير بالمضارع في المعطوف على الصلة وهو قوله‏:‏ ويدرءون بالحسنة السيئة‏}‏ لاقتضاء المقام إفادة التجدد إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء ما يُحرص عليه لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت، فوُصف لهم دواء ذلك بأن يدعوا السيّئات بالحسنات‏.‏

والقول في عطف ‏{‏والذين صبروا‏}‏ وفي إعادة اسم الموصول كالقول في ‏{‏والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل‏}‏‏.‏

والصبر‏:‏ من المحامد‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏45‏)‏‏.‏ والمراد الصبر على مشاق أفعال الخير ونصر الدين‏.‏

وابتغاء وجه ربهم‏}‏ مفعول لأجله ل ‏{‏صبروا‏}‏‏.‏ والابتغاء‏:‏ الطلب‏.‏ ومعنى ابتغاء وجه الله ابتغاء رضاه كأنه فعل فعلاً يطلبُ به إقباله عند لقائه، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله‏}‏ في آخر سورة البقرة ‏(‏272‏)‏‏.‏

والمعنى أنهم صبروا لأجل أن الصبر مأمور به من الله لا لغرض آخر كالرياء ليقال ما أصبره على الشدائد ولاتّقاء شماتة الأعداء‏.‏

والسر والعلانية تقدم وجه ذكرهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية‏}‏ أواخر سورة البقرة ‏(‏274‏)‏‏.‏

والدرء‏:‏ الدفع والطرد‏.‏ وهو هنا مستعار لإزالة أثر الشيء فيكون بعد حصول المدفُوع وقبلَ حصوله بأن يُعِدّ ما يمنع حصوله، فيصدق ذلك بأن يُتبع السيّئة إذا صدرت منه بفعل الحسنات فإن ذلك كطرد السيئة‏.‏ قال النبي‏:‏ يا معاذ اتّق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمْحُها‏.‏ وخاصة فيما بينه وبين ربه‏.‏

ويصدق بأن لا يقابل من فعل معه سيّئة بمثله بل يقابل ذلك بالإحسان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم‏}‏ ‏[‏سورة فصلت‏:‏ 34‏]‏ بأن يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه وذلك فيما بين الأفراد وكذلك بين الجماعات إذ لم يفض إلى استمرار الضر‏.‏ قال تعالى في ذلك‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم‏}‏ ‏[‏سورة الأنفال‏:‏ 3‏]‏‏.‏

ويصدق بالعدول عن فعل السيئة بعد العزم فإن ذلك العدول حسنة دَرَأت السيّئة المعزوم عليه‏.‏ قال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ من همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة‏.‏

فقد جمع يدرءون‏}‏ جميعَ هذه المعاني ولهذا لم يعقب بما يقتضي أن المراد معاملة المُسيء بالإحسان كما أُتبع في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن‏}‏ في سورة فصلت ‏(‏34‏)‏‏.‏ وكما في قوله ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون‏}‏ في سورة المؤمنون ‏(‏96‏)‏‏.‏

وجملة أولئك لهم عقبى الدار‏}‏ خبر عن ‏{‏الذين يوفون بعهد الله‏}‏‏.‏ ودل اسم الإشارة على أن المشار إليهم جديرون بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل ما وصف به المشار إليهم من الأوصاف، كما في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ في أول سورة البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏

ولهم عقبى الدار‏}‏ جملة خبراً عن اسم الإشارة‏.‏ وقدم المجرور على المبتدأ للدلالة على القصر، أي لهم عقبى الدار لا للمتصفين بإضداد صفاتهم، فهو قصر إضافي‏.‏

والعقبى‏:‏ العاقبة، وهي الشيء الذي يعقُب، أي يقع عقب شيء آخر‏.‏ وقد اشتهر استعمالها في آخرة الخير، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والعاقبة للمتقين‏}‏ ‏[‏سورة القصص‏:‏ 83‏]‏‏.‏ ولذلك وقعت هنا في مقابلة ضدها في قوله‏:‏ ‏{‏ولهم سوء الدار‏}‏ ‏[‏سورة غافر‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وعقبى الكافرين النار‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 35‏]‏ فهو مشاكلة كما سيأتي في آخر السورة عند قوله‏:‏ ‏{‏وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وانظر ما ذكرته في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن تكون له عاقبة الدار‏}‏ في سورة القصص ‏(‏37‏)‏ فقد زدته بياناً‏.‏

وإضافتها إلى الدار‏}‏ من إضفة الصفة إلى الموصوف‏.‏ والمعنى‏:‏ لهم الدار العاقبة، أي الحسنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ‏(‏23‏)‏ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏جنات عدن‏}‏ بدل من ‏{‏عقبى الدار‏}‏‏.‏ والعَدْن‏:‏ الاستقرار‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ومساكن طيبة في جنات عدن‏}‏ في سورة براءة ‏(‏72‏)‏‏.‏

وذكر يدخلونها‏}‏ لاستحضار الحالة البهيجة‏.‏ والجملة حال من ‏{‏جنات‏}‏ أو من ضمير ‏{‏لهم عقبى الدار‏}‏، والواو في ‏{‏ومن صلح من آبائهم‏}‏ واو المعية وذلك زيادة الإكرام بأن جعل أصولهم وفروعهم وأزواجهم المتأهلين لدخول الجنة لصلاحهم في الدرجة التي هم فيها؛ فمن كانت مرتبته دون مراتبهم لَحِق بهم، ومن كانت مرتبته فوق مراتبهم لحقُوا هم به، فلهم الفضل في الحالين‏.‏ وهذا كعكسه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم‏}‏ ‏[‏سورة الصافات‏:‏ 22‏]‏ الآية لأن مشاهدة عذاب الأقارب عذابٌ مضاعف‏.‏

وفي هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح أو خلف صالح أو زوج صالح ممن تحققت فيهم هذه الصلاة أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه، وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرى كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء‏}‏ ‏[‏سورة الطور‏:‏ 21‏]‏‏.‏

والآباء يشمل الأمهات على طريقة التغليب كما قالوا‏:‏ الأبوين‏.‏

وجملة والملائكة يدخلون عليهم من كل باب‏}‏ عطف على ‏{‏يدخلونها‏}‏ فهي في موقع الحال‏.‏ وهذا من كرامتهم والتنويه بِهم، فإن تردد رسل الله عليهم مظهر من مظاهر إكرامه‏.‏

وذكر ‏{‏من كل باب‏}‏ كناية عن كثرة غشيان الملائكة إياهم بحيث لا يخلو باب من أبواب بيوتهم لا تدخل منه ملائكةٌ‏.‏ ذلك أن هذا الدخول لما كان مجلبة مسرة كان كثيراً في الأمكنة‏.‏ ويفهم منه أن ذلك كثير في الأزمنة فهو متكرر لأنهم ما دخلوا من كل باب إلا لأن كل باب مشغول بطائفة منهم، فكأنه قيل من كل باب في كل آننٍ‏.‏

وجملة ‏{‏سلام عليكم‏}‏ مقول قول محذوف لأن هذا لا يكون إلا كلاماً من الداخلين‏.‏ وهذا تحية يقصد منها تأنيس أهل الجنة‏.‏

والباء في ‏{‏بما صبرتم‏}‏ للسببية، وهي متعلقة بالكون المستفاد من المجرور وهو ‏{‏عليكم‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ نالكم هذا التكريم بالسلام بسبب صبركم‏.‏ ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف مستفادٍ من المقام، أي هذا النعيم المشاهد بما صبرتم‏.‏

والمراد‏:‏ الصبر على مشاق التكاليف وعلى ما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم‏.‏

وفرع على ذلك ‏{‏فنعم عقبى الدار‏}‏ تفريع ثناء على حسن عاقبتهم‏.‏ والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة مقام الخطاب عليه‏.‏ والتقدير‏:‏ فنعم عقبى الدار دارُ عُقْباكم‏.‏ وتقدم معنى ‏{‏عقبى الدار‏}‏ آنفاً‏.‏